ثمة منشور متداول على الفيسبوك منسوب للشيخ خالد الجندي الذي قرر أن يتحدى الشات جي بي تي، أحد أكثر تطبيقات الذكاء الاصطناعي شهرة لدى الجمهور العام في مصر. سأل الشيخ الجهبذ الشات جي بي تي أن يأتي له بفعل أمر يبدأ بحرف الياء في القرآن الكريم، وجاء الرد أنه لا يوجد. وهنا جاء الرد المفحم من الشيخ من سورة طه في قوله تعالي "يسِّر لي أمري" إذا قال إن "يسِّر" فعل أمر من الفعل "يسَّر". بعيداً عن مسألة اشتقاق فعل الأمر، وهي مسألة نحوية يمكن العودة فيها إلى اللغويين، ثمة نقطة كانت تستدعي تفكيراً من الشيخ له صلة بالمخاطب في هذه الآية وهو "الله عزة وجل" والذي لا يمكن لبشر أن يخاطبه بصيغة الأمر، وإنما بصيغة الرجاء أو الدعاء، وهي مسألة لم يكن الشيخ فيها في غمرة حماسه في تحدي الآلة. نقطة أخرى تنم "محدودية تفكير" ناجمة عن الاستعلاء حين زف إلينا الشيخ أن الشات جي بي تي، حينما أقر بأن هذه هي أول مرة يلتفت فيها إلى تلك الإجابة، بغض النظر عن صحة إجابة الشيخ. هناك أمثلة عديدة لمثل هذه الاختبارات التي يندفع كثير منا لإجرائها لإثبات شيء لم يزعمه الذكاء الاصطناعي ولا تطبيقاته من الأصل، وهو الزعم بامتلاك الحقيقة، وهو زعم لا تجده إلا عند المتدين المنغلق عقلياً وفكرياً، والذي ينطلق من فكرة أن ما يؤمن به هو الحقيقة التي تشكل نقطة انطلاق لا يمكن مراجعتها أو التشكيك فيها.. هذا النمط من التفكير هو المسؤول عما تعرض له كتاب "في الشعر الجاهلي" لطه حسين في ثلاثينات القرن الماضي، وتحكم هذه العقلية في حياتنا وتحرر مجتمعات أخرى منها هو ما سمح بحدوث تطور هناك وجمود هنا.
إن علاقة الغالبية العظمي من مواطنينا بالذكاء الاصطناعي وتطبيقاته، مثل علاقتهم بكثير من منتجات التكنولوجيا الحديثة، والتي تنحصر في دائرة الاستخدام والاستهلاك فقط، وغالباً ما نتعامل مع هذه المنتجات دون أن نبذل جهدا في فهم المنطق أو الطريقة التي تعمل بها، ويميل البعض إلى إجراء اختبارات تهدف إلى إثبات أنهم أكثر ذكاء من الذكاء الاصطناعي الذي يتم التعامل معه عادة بقدر كبير من القلق والتوجس والريبة. القلق سببه أو مصدره الخوف من أن تحل الآلة محله فيما يؤديه الأفراد من وظائف أو خدمات، وهو قلق تعززه آلاف التقارير التي صدرت بخصوص تأثير الذكاء الاصطناعي التوليدي على مستقبل العمل والوظائف. ولا نهتم غالبا بتلك النوعية من الدراسات والتقارير الدقيقة التي تشير إلى تغير بنية الوظائف أو العمل نتيجة للتوسع في الاعتماد على الكمبيوتر في كثير من الأنشطة الإنسانية التي كانت تستهلك قدراً كبيراً من طاقة الإنسان وجهده. فعلى سبيل المثال، ومن واقع مهنة الترجمة التي احترفتها لأهميتها في عملي كصحفي وباحث، تابعت التطور الحادث في برامج الترجمة الآلية منذ بدء تطبيق "مترجم جوجل"، ودفعتني هذه المتابعة إلى محاولة فهم المنطق الذي يعمل به هذا التطبيق وساعدني ذلك على تتبع مراحل تطور ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في العشرين عاماً الأخيرة، ولاحظت مراحل تطور هذه الثورة منذ بداية الانترنت، وما أحدثه من ثورة في الاتصالات شملت الأجهزة والمعدات والبرامج والتطبيقات.
من الإبحار إلى التنقيب
مع توسع الانترنت والتدفق الهائل في البيانات والمعلومات والمواقع والخوادم التي وضعتنا أمام أشكال جديدة للمكتبات وقواعد البيانات التي سهلت للباحث مهمته في الحصول على المصادر التي يحتاجها من أماكن مختلفة في العالم بشكل مجاني أو مقابل اشتراك، إذا أراد خدمة أفضل، كانت النصيحة التي تقدم للباحثين أثناء التعامل مع الشبكة العنكبوتية، هي "الإبحار" أو "الملاحة" Navigation والتي تشبه الانترنت ببحر متلاطم الأمواج يتعين على الباحث الذي يستعين به أن يمتلك مهارة الملاحة كي يكتشف مسارات تساعده على الوصول إلى الهدف وتجنبه الدوامات أو الغرق أو فقدان المسار. مع تطور ماكينات البحث، مثل "جوجل" و"ياهو" و"مايكروسوفت" وتعاظم التفاعل من خلال الانترنت حدث تطور في مسألتين أساسيتين، الأولى مرتبطة باللغة. وقد لا يعرف كثير منا الدور الذي لعبه علماء الألسن واللغويون في تطور تطبيقات الحاسب الآلي، وقد لا يعرف كثير مِنّا الإسهام الذي قدمه عالم اللغويات نعوم تشومسكي من خلال دراساته في النحو التوليدي، في إحداث ثورة في تطبيقات الكمبيوتر أتاحت تحويل الصور الثابتة والمتحركة على نحو يتيح للحاسب الآلي تخزينها واستعادتها وتداولها على هذا النطاق الواسع عبر العديد من الوسائط، لتنطلق ثورة الاتصالات والمعلومات إلى آفاق جديدة. ومع فتح محركات البحث أمام آلاف اللغات المستخدمة في العالم، جرى تطوير ما يعرف بالنماذج اللغوية الكبيرة LLMs والنماذج اللغوية الكبيرة التفاعلية والديناميكية، والتي كانت مقدمة ضرورية لظهور ما يعرف في دراسات الكمبيوتر بفكرة تعلم الآلة machine learning وهو أمر مرتبط بالتطور الهائل الحادث في علم المنطق semantics مع تطوير برامج رياضية مستفيدة من التوسع في تطبيقات ما يعرف بالمنطق الغائم fuzzy logic الذي أحدث قطيعة معرفية كبرى مع فكرة اليقين، وهي مسألة لا تقوى غليها العقول التي ترتاح لفكرة الإيمان أو الاعتقاد بقين ما تؤمن به، وتركن إليه عندما تعجز عن تفسير ما تراه من احداث ووقائع وظواهر.
المسألة الثانية مرتبطة بفكرة قواعد البيانات الضخمة big data نتيجة لتراكم قدر هائل من البيانات والمعلومات من خلال التفاعل عبر محركات البحث ووسائل التواصل الاجتماعي، والتي تطور معه ما يعرف بمصادر الانترنت المفتوحة والتي أدت إلى ثورة هائلة في كثير من المجالات والأنشطة بدءاً بقطاع البحوث وانتهاء بالمخابرات في جانبيها المتعلقين بالحصول على المعلومات وتحليلها، أو استخدامها وتوظيفها. هذه الطفرة الكبيرة في قواعد البيات نتيجة لتطبيق ما يعرف بالخوارزميات وهي تطبيقات رياضية معقدة تسمح بالكشف عن الانتظام الشديد في الظواهر التي قد تبدو عشوائية، الأمر الذي أحدث ثورة في مناهج التفكير مع ظهور نظرية الشواش chaos theory التي تترجم خطأ إلى "نظرية الفوضى"، وهي تشير إلى الحالة العامة للنظام system كأكثر تطبيقات الكمبيوتر تعقيداً وما ارتبط ذلك بفكرتي "التعقد والبساطة" على النحو الذي يشرحه كتاب "البساطة العميقة: الانتظام في الشواشي والتعقد"، للفزيائي جون جرييبن، المهتم بفهم علاقة المادة بالقوى الكونية فيما وراء المادة. وفتحت نظرية التعقيد ونماذج المنطق اللاخطي nonlinear logic الباب لدراسة الظواهر المعقدة ووضع نماذج للكوارث الطبيعية وإعادة تقييم أوزان مسببات التحولات الجذرية المفاجئة في الظواهر الطبيعية والاجتماعية. ومع هذا التطور في قواعد البيانات والمعلومات أصبحت النصيحة التي تقدم للباحثين والمسؤولين هي التنقيب mining في هذه القواعد للوقوف على البيانات الحاسمة في اتخذا القرارات في شتى المجالات. وهذا التعبير معروف جيداً لمن يعملون في تداول العملات الرقمية والمشفرة.
التطور الأسي المتسارع وتوسع الهوة
لقد تمكنت من الوقوف على هذا الجانب من صورة التطور الحادث في العالم بتأثير ثورة المعلومات والاتصالات وانتقال العالم السريع من الثورة التكنولوجية الثالثة إلى الثورة الرابعة والاستعداد للدخول في ثورات جديدة هي أشبه بالقفزات المعرفية والفكرية، ولا شك أن الباحثين الأكثر تخصصاً لديهم الكثير الذي يمكن أن يضيفونه لفهم المنطق الذي يتطور به العالم والذي يتخذ منحى التطور الأسي المتسارع. والمقصود بالتطور أو التقدم الأسي هو حدوت التطور بمتوالية هندسية، تشير إلى التطور بمعدلات ناجمة عن محصلة الضرب في عدد لا متناهي من التكرارات، في مقابل التطور الحسابي، الذي يخضع لمنطق المتوالية الحسابية الناجمة من التراكم الحادث نتيجة للمتتالية الحسابية للأرقام. ولعالم الدواء المصري رؤوف حامد كراسة مفاهيمية مهمة صادرة عن المكتبة الأكاديمية في السلسلة التي يرأس تحريرها الدكتور أحمد شوقي أستاذ الوراثة بكلية الزراعة جامعة الزقازيق، بعنوان "التقدم الأسي: إدارة العبور من التخلف إلى التقدم"، يشرح باستفاضة ووضوح أكبر الفارق بين المتواليتين، ويدعو إلى منهج جديد للتفكير في مسائل التنمية والتقدم في مجتمع، يغيب عن تفكير سواده مفهوم "التقدم" وسؤال "المستقبل".
تحدث تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي لا نقف إلا على جانب منها ثورة هائلة في جميع المجالات، بما في ذلك الحروب والصراعات المسلحة. وهناك تقارير كثيرة عن اعتماد إسرائيل على تطبيقات الذكاء الاصطناعي في حربها في قطاع غزة التي اندلعت في أعقاب هجوم السابع من أكتوبر 2023 الذي شنته حماس. من المؤكد أن هناك إخفاق في أجهزة الأمن الإسرائيلية في توقع هذا الهجوم والاستعداد له، لكن حكومتها اليمينية نجحت في توظيف هذا الهجوم لتحقيق أهداف تتجاوزه تتعلق بتغيير معادلة الصراع في المنطقة. وثمة "ورقة سياسات وزارة الاستخبارات الإسرائيلية بشأن السكان المدنيين في غزة، أكتوبر 2023"، بتاريخ 13 أكتوبر 2023، تشرح كيف وظفت الذكاء الاصطناعي في إدارة الحرب في غزة والحصول على معلومات عن حماس وعن السكان. وشرح تقرير نشره "موقع 972" وتقارير صحفية أخرى كيف استخدمت إسرائيل تطبيقات الذكاء الاصطناعي في استهداف مقاتلي حماس والمدنيين في غزة، فيما أشارت مجلة "تايم" الأمريكية والعديد من مراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية إلى تأثير تلك التطبيقات على مستقبل الحروب، وما يطرحه هذا التأثير من مشكلات أخلاقية وعملية، لأنها تتوسع في الاعتماد على الآلة في استهداف البشر. وربما كان التوسع في استخدام الطائرات بدون طيار والمعدة العسكرية الأخرى المسيرة التي يجري التحكم فيها عن بعد أحد النتائج التي ترتبت على التوسع في الاستفادة من تطبيقات الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري.
لا ينبغي لتلك التطبيقات أن تثير انزعاجنا، ولكن ما ينبغي أن يثير انزعاجنا بالفعل هي تلك الهوة الآخذة في الاتساع بشكل متسارع بين العالم المتقدم وبيننا، والتي من المحتمل أن تدفعنا إلى مناطق غير مسبوقة في تاريخ البشرية مع تحرر العقل وأنماط التفكير العلمي في الدول الغربية وتكلس وجمود التفكير في مجتمعاتنا والاستهانة بهذه التحولات بمبررات مثل التفوق الأخلاقي والروحي وما شابه من أفكار تستخدم لتبرير الجمود والتخلف وخروجنا من مسار التاريخ والتقدم، ما ينبغي أن يثير انزعاجنا حقاً هو عدم الوصول إلى إجابة على السؤال المطروح على مجتمعاتنا منذ أكثر من قرنين لماذا تقدموا ولماذا تأخرنا؟ علينا أن نبدأ أن التقدم يبدأ بانتصار التفكير العلمي على العقل الخرافي وغيره من مفاهيم عقيمة تبرر للتخلف وتكرسه بمزاعم أخلاقية لم نخضعها للتفكير النقدي للوقوف على حقيقة تجذرها في مجتمعاتنا التي تعلي من شأن التدين الشكلي والطقسي وتسلك سلوكا لا يتفق مع أهم قيم تدعو لها الأديان جميعاً في مقدمتها قيمة الصدق، وهذا الصدق يجب أن يكون بداية صدق مع الذات، عوضاً عن الممارسات التي نخدع من خلالها ذواتنا، ومن بين عجز الشات جي بي تي وتفوق خالد الجندي، وأننا عَلّمنا على الشات جي بي تي.
----------------------------
بقلم: أشرف راضي